الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كان للحضارة الإسلامية نظرة خاصة في رعاية المرضى وذوي الاحتياجات، ولعل أبرزها التخفيف عليهم في بعض الالتزامات الشرعية، فما هي حقوق المرضى في الإسلام؟
للإسلام والحضارة الإسلامية نظرةٌ خاصَّةٌ في رعاية المرضى وذوي الاحتياجات، تلك النظرة التي تبدأ من التخفيف عليهم في بعض الالتزامات الشرعيَّة، وذلك كما في قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْـمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]. وتنتهي ببثِّ الأمل في نفوسهم، ومراعاة حقوقهم الجسمانيَّة والنفسيَّة.
تعامل رسول الله مع المرضى
فنجد النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته؛ مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكَلَّفة أو اضطراريَّة، وإنما كان يَشعر بواجبه ناحية هذا المريض.. كيف لا وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ خَمْسٌ... وَعِيَادَةُ الْـمَرِيضِ..."[1].
فكان صلى الله عليه وسلم -وهو المُرَبِّي والقدوة- يُهَوِّن على المريض أزمته ومرضه، ويُظهِر له - دون تَكَلُّف - مُوَاساته له، وحرصه عليه، وحبَّه له، فيُسعد ذلك المريضَ وأهلَه، وفي ذلك يروي عبد الله بن عمر فيقول: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله[2]، فقال: "قَدْ قَضَى؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ؟! إِنَّ اللهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ[3]"[4].
كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو للمريض ويُبشِّره بالأجر والمثوبة نتيجة المرض الذي لحق به؛ فيُهَوِّن بذلك عليه الأمر، ويُرْضيه به؛ تروي أُمُّ العلاء[5] فتقول: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة، فقال: "أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلاَءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْـمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"[6].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يُخَفِّف عن المريض وألاَّ يشقَّ عليه، وقد روى في ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التَّيَمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات؛ فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك، فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ[7]، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ أحد رُوَاة الحديث- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ"[8].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يُلَبِّي حاجة المريض، ويسير معه حتى يقضي حاجته، ولقد جاءته ذات مرَّة امرأة في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فقال: "يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ". فخلا معها[9] في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها[10].
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى وذوي الاحتياجات الخاصَّة الحقَّ في التداوي؛ لأن سلامةَ البدن ظاهرًا وباطنًا مقصدٌ من مقاصد الإسلام؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعراب عندما سألوه عن التداوي: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً إِلا الْهَرَمَ"[11].
كذلك لم يكن يمانع أن تعالِج المرأةُ المسلمة رجلاً من المسلمين؛ حيث جَعَلَ صلى الله عليه وسلم رُفَيْدة -وهي امرأة من قبيلة أسلم- تعالِج سعد بن معاذ حين أصابه سهم بالخندق، وكانت -رضي الله عنها- تُداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين[12].
وفي صورة تطبيقية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عمرو بن الجموح رضي الله عنه تعاملاً راقيًا، وكان عمرو من ذوي الاحتياجات الخاصَّة، إذ كان أَعْرَج شديد العَرَج، وقد حدث أن بنيه الأربعة الذين كانوا يشهدون المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرادوا حبسه يوم أُحُدٍ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عَمْرًا: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذرَكَ اللهُ فَلا جِهَادَ عَلَيْكَ". وقال لبنيه: "مَا عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللهُ يَرْزُقُهُ شَهَادَةً". فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقُتِلَ يوم أُحُدٍ، ثم قال صلى الله عليه وسلم عنه: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ الْـجَمُوحِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَطَأُ فِي الْـجَنَّة بِعَرْجَتِهِ"[13].
وهكذا كان حال المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة في الإسلام، وفي ظِلِّ الحضارة الإسلامية.
د.راغب السرجاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم في السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
[2] غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/175.
[3] يُعَذِّبُ بهذا: أي إن قال سوءًا. أو يرحم: أي إن قال خيرًا. انظر: المصدر السابق.
[4] البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض (1242)، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت (924).
[5] أم العلاء: أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، عمة حزام بن حكيم. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 7/405، وابن حجر العسقلاني: الإصابة الترجمة 8/265 (12176).
[6] أبو داود: كتاب الجنائز، باب عيادة النساء (3092)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (7851).
[7] شفاء العي أي: يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 1/368.
[8] أبو داود: كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336)، وابن ماجه (572)، وأحمد (3057)، والدارمي (752)، والدارقطني (3)، والبيهقي في سننه الكبرى (1016)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (4362).
[9] أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية؛ فإن هذا كان في ممرِّ الناس ومشاهدتهم إيَّاه وإيَّاها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها ممَّا لا يظهره. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم 15/83.
[10] مسلم عن أنس بن مالك: كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (2326)، وأحمد (14078)، وابن حبان (4527).
[11] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين..، وصححه الألباني، انظر: غاية المرام (292).
[12] البخاري: الأدب المفرد 1/385 (1129)، وابن هشام: السيرة النبوية 2/239، وابن كثير: السيرة النبوية 3/233، وقال الألباني: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. انظر: السلسلة الصحيحة (1158).
[13] ابن حبان عن جابر بن عبد الله: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة (7024)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده جيد. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/423، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/214.
التعليقات
إرسال تعليقك